الشوارع البعيدة
حسین طرفی علیوی الکاتب الاهوازی القدیرُ قال عنه مره احمد حیدری بانه من القاصین المتمکنین فلدیه اسلوبه الخاص و دفئ نصه لن یزول عنا و یاخذ القاری حیث یرید.
صدق الکاتب احمد فهذه المره یاخذنا حسین طرفی علیوی الی الشوارع البعیده لنعیش لحظات لا بل ساعات فیها مثل ما اخذنا المره السابقه الی داخل الصندوق الخشبی.
مدونه بروال الاهواز ترجوا من کل الاخوه الزوار ان یقدموا تعلیقاتهم بهذه القصه القصیره کالسابقات من اجل انتشار و رقی هذا المجال المهم داخل مجتمعنا الاهوازی.
الشوارع البعيدة (قصه قصیره)
حسین طرفی علیوی
صوت الدعاء تناهى الى مسمعها ليعلن عن دنو الأذان، مضت زينب بجسدها الملتحم داخل غرفتها كسمكة عائمة، تسير نحو مكتبتها وهي تصب بصرها على عناوين الكتب المصطفة، نالت الروايات النصيب الأوفر من تلك النظرات، لكن ما الفائدة إذ أنها قد قرأت كل هذه الكتب و لم يبق لديها ما تضيع به ليلتها الطويلة، فلامت نفسها لم لم تنتبه لهذا الأمر مبكرا لوصت صديقتها سميرة في استعارة بعض الكتب حين زارتها يوم أمس.
حاصرتها رغبة ملحة نحو القراءة فبدأت تتنقل من غرفة لغرفة تبحث في الأدراج و الرفوف و الزوايا و قد فاجئها الإرهاق بإظهار قطرات من العرق الساخن السائل على يدها اليسرى الباردة .
انحنت بصعوبة و نزلت تنظر من تحت السرير ما إذا كان كتاب بقي قابعا هناك على دفة الإهمال .
دخلت عليها أمها و بهمة بالغة رفعتها من تحت إبطها الأيمن متسائلة:
_ ماذا تفعلين؟ إنك سوف تقتلينني بأعمالك الجنونية هذه، لكم حذرتك بالا ترهقي نفسك هكذا؟
طأطأت زينب رأسها خجلة من ثم أجالت النظر الى أمها و ندت عن آهة دلت على يأسها قائلة:
_ أبحث عن كتاب لاقرأه الليلة.
ردت عليها والدتها بنزق:
_ و هل لديك امتحان يوم غد؟
ما كانت الوالدة مطمئنة من ردها و سرعان ما اتضح لها من خلال امارات وجه زينب أنها أخطأت، و ما كان عليها أن تخاطبها بصيغة تحكمية و هي التي تعلم الى أي مدى يصل دقة إحساس بنتها و حذرها، و لاشك أن زينب سوف تشرد بذهنها الى ذلك الزمن الذي منعها أخوها من الذهاب الى المدرسة الإعدادية و تتذكر كيف بقيت رابضة في البيت و شاءت الأقدار أن تحرمها من رؤية الخارج!
استطردت الأم قائلة:
_ على أي حال سأغضب إذ رأيتك مرة أخرى ترهقين نفسك بتلك الطريقة، أنا ساصنع لك كل ما ستحتاجينه.
و تابعت:
_ على فكرة. أبوك و أخوك يبقيان في المسجد حتى الصباح لقضاء صلاة القدر، سنتناول الإفطار وحدنا الليلة.
دلفت الأم نحو المطبخ لتهيئ كل ما تحتاجه مائدة رمضان و تركت زينب غارقة في أفكارها (هل تستسلم الى هذه الليلة بلا قراءة) لاح ببصرها القرآن من على الطاولة (هل ستقرأه الليلة بعد أن حفظته عن ظهر قلب).
فطنت لحظتها زينب بإدمانها للقراءة ، إنها راحت تشبه المدمن على المخدرات حيث لم يجد لديه ما يبدد به ظلمة الليل، فتتداعت الجمل و الأفكار في مخيلتها: (اذا لم يكن هناك ما سيقرأ فهناك الكثير بحاجة الى الكتابة) فجأة خطرت في بالها هذه الفكرة و انبعثت تتغلغل في طيات دماغها لتغسله بالكامل، و بدأت تنشط حركتها شيئا فشيئا و هي تغالب ابتسامة على شفتيها.
وضعت الأوراق على الطاولة و التقطت القلم محدقة ببياض الورق (من اين تبدأ رحلتها بالكتابة) فكرت في أول وهلة انها تكتب عن العصبية و سلطة الذكور و التعصبات الواهية، لكن عدلت عن هذه الفكرة قائلة في قرارة نفسها(هل غادر نجيب محفوظ من متردم في هذا المجال) أخذت تقلب الصور في ذهنها خاصة المشاهد التي رغبت في كتابتها، لكن وجدتها متآكلة و غير واضحة لأن معظمها لن تشاهدها بأم عينيها بل سمعتها فقط، فتوقف ذهنها عند تلك العجوز الساكنة خلف بيتهم في كوخ طيني، كم رغبت في الكتابة عن حياتها المؤلمة حين سمعت حكايتها من والدتها، لكن هل يمكن الكتابة عن موضوع سمعته فحسب و هل كتابتها تكون طبقا للواقع إذ انها لن تلامسه؟ أخيرا وصلت الى آخر محطة إذ تخترق جدار الوهم متحدية إياه حتى تصل الى غايتها المرجوة!
سارت نحو أمها و هي ترتب الكلمات في ذهنها:
_ أماه . هل تسمحين لي بأخذ بعض من التمر الى العجوز الساكنة في الكوخ لأن ثواب الليلة تعرفين أنه يساوي الف شهر.
الأم كانت تعلم برغبة بنتها في هذه الزيارة و دائما كانت ترفض هذا الطلب من أجل سلامتها من اي مكروه يحل عليها و خوفا من زوجها اذ لا يود أن تخرج بهذه الهيئة لكن هذه المرة لا تدري كيف وافقت و وضعت التمر في كيس و سمحت لها بالذهاب الى ذلك الكوخ وحيدة، لربما استسلمت لليلة القدر و ما تحمل هذه الليلة من طقوس دينية.
وجدت زينب نفسها في الشارع تسير ببطء لأول مرة دون مساعدة أحد من أسرتها كانت تنظر الى حركة الناس النشيطة المفعمة بالحيوية: رجل مع زوجته يحملان أكياسا تدل على مجيئهما للتو من سوق نادري يمران مسرعين من أمامها ليصلا الى البيت قبل الأذان، تخرج طفلة من أحد المحلات بيدها صلصة الزلاطة راكضة نحو البيت و و بسهولة اكتشفت اين يتجه كل هؤلاء، و هل هناك من يكتشف أمرها إذا نظر اليها ، لا شك انه سيخطأ في تكهناته و سيخسر الرهان.
تابعت سيرها في الشارع الممتد و لاح طرفها محل (أم علي) و تذكرت يوم كانت طفلة فتصب أم علي في كيسها كوبا من (الحمحم) و تقول لها (هاي اچمالة) - الله يرحمها لكم كانت انسانة حنونه- تقربت الى المحل و نظرت في داخله رأت شابا يبيع و قد تغير المحل بالكامل .
مساء الأهوازلا شك أنه يغري القريب و البعيد فهو رائع في كل المواسم و لا يحضى النهار ثلث ما يحضاه المساء من روعة. و هذا ما جعل من زينب تسير في أحد أحياء الأهواز العامرة بالنسائم الخريفية الهانئة، سعيدة بحريتها و انطلاقها مما ساعدتها هذه السعادة في تناسي ما جاءت من أجله.
عادت أدراجها و انعطفت صوب الكوخ و هي تنظر الى الكيس القابع تحت يدها اليسرى الى أن صار بوسعها مشاهدة الكوخ بكل وضوح، سارت نحوه بشوق متصورة ما ستراه من أشياء رخيصة تكهنتها قبل المجيئ.
العتمة تغطي ساحة الكوخ الأمامية و واجهت زينب صعوبة باجتياز هذه الساحة الترابية المليئة بالصخور و الأغصان المتناثرة. سئمت كثيرا إذ رأت نفسها عاجزة عن العبور و التقرب الى هذا الكوخ الماثل أمام عينيها. عندما أرهف أذنها صوت الأذان تحركت مسرعة لكي لا تتأخر مثلما أرادت منها الأم لكن بغتة هوت بقوة على الأرض فتعفر وجهها بالتراب و القمامة و مع سقوطها غاب كيس التمر في العتمة. أحست بانكسار في جنبها لكنها لم تزعق خوفا من الفضيحة، رفعت رأسها بمحن و أجهشت بالبكاء الكاتم الذي بات يزمجر في صدرها فشاهدت من خلف المياه شابين يركضان نحوها، فخفق قلبها و مسحت الدموع بسرعة و هي مذعورة ظنت أنهما يتأبطان شرا، لكن سرعان ما فهمت من خلال حديثهما يريدان المساعدة.
عدل أحدهما الكرسي و الآخر رفعها من تحت ابطها الأيسر وساندها بروية لترتمي على الكرسي من ثم قرب وجهه لوجهها و سألها بإشفاق:
_ اين تريدين الذهاب؟
رفعت زينب بحياء فائق رأسها و رأت عينين تبرق بضوء الشوارع البعيدة، و ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه فقالت بارتباك و هي تشير بيدها اليمنى باتجاه بيت أهلها:
_الى ركن ذلك الشارع.
رفع الإثنان الكرسي من الجانبين و نقلاها الى الطريق المبلط أمام بيتها و سمعت صوتا دافئا يسألها هل هناك خدمة ثانية تحتاج اليها؟
أحست بانعقاد لسانها حين شكرتهما، فحركت عجلة الكرسي و سارت نحو البيت وهي لا تدري هل سمعا صوتها أم لا.
وصلت منهكة تماما. رأت أمها كيف كانت تأخذها نحو الحمام لتخلع ثيابها و هي تحكي معها، لكن زينب لا تزال غارقة في الوجوم لم تفق بعد، فما كان بامكانها أن تسمع ما تقوله الأم.
بكت زينب تحت الدش الدافئ بحرارة و لعنت حظها الذي قادها الى الكتب حيث لا يتوافق مع شللها المتغطرس الذي عطل الجانب الأيسر من جسدها و حولها الى شبه ميتة. هل هي عاجزة الى هذه الدرجة؟ هل يصدق أنها تعيش في واقع ملموس؟!
رفعت رأسها فرأت عينين تسافران و ابتسامة يبددها البخار، شعرت بدفئ يد ذلك الشاب على الجانب الأيسر من جسدها و كأنه جعل من الحياة تدب فيه.
عادت الى طاولتها من جديد، لكن هذه المرة ليست متحدية و لا أنها طامحة الى شيئ بل عائدة الى خيالها الجانح ، مادامت الحياة باتت تشبه الخرافة، فسوف تكتب عن القصص الخيالية و الخرافة و عن ماوراء الطبيعة.
انتهت
تعلیقات الزوار و اجابه الکاتب:
المعلق:ابوقیس | |||||
قصة جمیلة و موثرة و تفاجئ القاری باسلوب شیّق اتمنی لکاتبنا العزیز الموفقیة و المزید من الانتاج | |||||
المعلق:علی عبدالحسين | |||||
نشكر طاقم مدونه بروال كذلك الاخ القاص الاستاذ حسين طرفي وندعو من الله التوفيق والسداد لكم جميعا.... اخيرا نطلب المزيد من مقالات عابر سبيل. | |||||
المعلق:عابر سبیل | |||||
الشرائع البعیدة !!! أیّ شریعة هذه التی تقصی نصف المجتمع عن الحیاة الطبیعیة ، تشلها و تقذفها فی زوایة معتمة تسمی البیت ، المثقفة من هذه الشریحة قبل غیرها، برأئی زینب تمثل جمیع النساء فی مجتمعنا ، ارادت لها الاقدار أن تکون جلیسة البیت کما ارادت لغیرها من جنسها الرکون الی السلطة الذکوریة ، اعرف کثیرا من السیدات اللواتی خرجن من المجتمع بأمر من الذکور و جلسن فی زوایا البیوت بعد ما کان لهن دور کبیر فی الساحات الادبیة و الثقافیة ، استطاع الکاتب ببراعة أن یسلط الضوء علی هذه المعضلة و لکن بلغة سلسة و مرنة لیصور لنا مشهدا أنسانیا مؤثراً لیرسخ فی الاذهان تحیاتی له و لصدیقه !!!!! | |||||
المعلق::رضا | |||||
مشكور علي هذا المقال ارائع بارك الله فيك ![]() | |||||
المعلق:ابو ابين الكعبي | |||||
اسحرتني بقلمك يا ابا علاء جدا مميز و اشكرك علی هذا عندما امسكتنا بقصتك لتأخذنا نری مأساة فتاة ما و ارجوا عالجوا و حاربوا الضواهر الاجتماعية عبر شتی وسائل كما نجد هذا في هذه القصة و في الاخير اشكر مدونة البروال و اتمنی السداد و التوفيق للكاتب و للمدون. | |||||
المعلق:رحیم صخراوی | |||||
کتبت فابدعت قصة فی غایة الروعة و الجمال تعکس طبیعة مجتمعنا الاهوازی و الواقع المریر الذی یعیشة نصف الثانی للمجتمع و هو المجتمع النسائی وایضا المعوقین وصعوبة العیش مع واقعهم فانا ادرک ما تشعر به تلک الفتاة زینب والتی تواجهها من صعوبات الکرسی المتحرک و سجن جدران الغرفة و إحساس بالضعف و نظرات المارة .... شکرا لک ولتجسیدک تلک القصة |
اجابه الکاتب:حسین طرفی علیوی
اخی العزيز ابو قيس
اشكر مرورك الجميل الذي يدعوني الى الكتابة و المزيد
لك مني تحية
الطرفي
لك مني خالص المحبة
انا سعيد برأيك رغم اني لو اخرج من مجتمعنا و قصتي الاولى هي جاءت حول التراث
علي عبدالحسين
يا اخي العزيز اشكر حضورك الدائم و الرائع لك مني احر تحية
السيد محمود
لا شك ان رایك ملفت للنظر فأنا اتفق معك باننا بحاجة ماسة لكثرة الكتابة و اشار الكاتب احمد حيدري ايضا حول هذا الامر و نحن الان في ساحة تطمح لتحريك الاقلام و الافكار و الاراء و النقد البناء فتحيتي لك
الكاتب عابر سبيل
لك مني يا اخي العزيز فائق المودة
الواقع يمتعني قلمك المؤثر و اراءك الحكيمة خاصة كتابتك في ملف عابر سبيل و انا لا ازال اعيش مع بعض المشاهد التي صورتها لنا
السيد رضا لك مني خالص المودة
العزيز ابو ابين الكعبي
كتابتك انها ستحثني الى الكتابة حول شوارع لم نطئها بعد
لك مودتي
الصديق العزيز الكاتب رحيم صخراوي
شد ما اسعدني رأيك حول القصة و قراءتك الحكيمة
لا شك هناك الكثير من الشوارع القريبة جدا و البعيدة لم نتحدث عنها و هذه الكتابات تساعدنا في اجتياز الحيطان لكي نلمس الواقع المعاش
يا اخي انا سعيد بمرورك الدافئ و ساكون بانتظار المزيد خاصة الاشعار الرائعة المفعمة بالحيوية و العامرة بالحضارات و الاساطير
لك مني خالص المحبة.
المعلق: عمید
اشکر البروال علی هذه المبادرات الطیبه
عندما اری و اقرا هذه الکتابات من کتابنا الاهوازیین یسودنی فرحا کبیرا و یوملنی بمستقبلنا
فیا ابناء جلدتی هیا علی الکتابه و علینا ان نربی جیلا قویا من الکتاب ک حسین و احمد و بلاوی والاخرین
تحیاتی
المعلق :علی
مرحبا
1-حرمان النساء من ابسط حقوقهن الانسانیه فی مجتمعنا ،مثل عدم الارتباط مع المجتمع
2-الاستعداد الموجود فی نساء الاهواز الذی یجب ان نوظفه لتنمیه مجتمعنا
3- الطریقه الوحیده للارتباط عند نساءنا هی الکتاب ان کانن یقران و الفضائیات و .... فتنعزل عن مجتمعنا و یهبها الریح این ما یمشی
4-السعی المتواصل للارتباط مع الخارج
5- تقبل المراه الاهوازیه بنصیبها و عدم طلب الاکثر
6- بعض المساعی الخجوله فی لاعطاء الحق للمرا و المحاوله لعدم تهمیشها الذی یتجسد باولئک الشباب و خوف المراه المحبوسه المعلوله من هذه الفئه ای المثقفین و...
مع الشکر للکاتب العزیز و المدونین